فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}.
نلحظ أن الخطاب هنا للذين آمنوا. والمنهي عنه هو اتخاذ اليهود والنصارى أولياء. وما معنى الوليّ؟. الوليّ هو الناصر وهو المعين. وهذا القول مأخوذ من ولي يلي؛ أي يقف في جانبه. ونسمي الذي ينوب عن المرأة في عقد النكاح «الوليّ». وكذلك «وليّ المقتول». والمراد هو: يا من آمنتم لاحظوا تمامًا أنكم أصحاب مهمة وهي أن تخرجوا الضلالات من البشر، هذه الضلالات تمثلت في تحريف ديانات كان أصلها الهدى فصارت إلى ضلال، فإياكم أن تضعوا أيديكم لطلب المعونة والنصرة.
إذن قوله الحق: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاءَ} هو حكم تكليفي. وحيثية الإيمان بالله. فما دمت قد آمنت بالله فكل من تقدح أنت في إيمانه بمخالفته لمنهج ربه لا يصح أن يكون مؤتمنًا على نصرتك؛ لأنه لم يكن أمينًا على ما معه فهل تتوقع منه أن يعينك على الأمانة التي معك لا؛ لأنه لم يكن أمينًا على ما نزل عليه من منهج. والولاية نصرة، والنصرة انفعال الناصر لمساعدة المنصور. وهل تجد فيهم انفعالًا لك ينصرك ويعينك، أو يتظاهرون بنصرتك، ولتعلموا أنهم سيفعلون ما قاله الحق: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا} [التوبة: 47].
إنهم لو دخلوا في صفوفكم لفعلوا فيكم مثلما يفعل المنافقون، فما بالنا بالذين خانوا أمانة الكتب المنزلة عليهم؟ إذن فالموالاة والنصرة والمعونة يجب أن تكون من متحد معك في الغاية العليا. وما دام هناك من يختلف مع الإسلام في الغاية العليا وهي الإيمان فلا يصح أن يأمنه المسلم. وسبحانه يقول: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.
وقد يتساءل الإنسان: كيف يقول الحق فيهم: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ} [البقرة: 113].
ويقول سبحانه أيضًا: {وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113].
ويقول جل شأنه: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113].
نحن- إذن- أمام ثلاثة أقسام؛ يهود، ونصارى، ومشركون، وقد قال مشركو قريش مثل قول أهل الكتاب بشقيهم برغم أنهم في خلاف متضارب وكل منهم ينكر الآخر، وسبحانه قال: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة} [المائدة: 14].
فكيف من بعد ذلك يقول سبحانه: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}؟ وهذا أمر يحتاج إلى وقفة إيمان لنرى الصورة كاملة، ونعلم أن الذين يخالفون منهج الحق قد يصح أن يكون بينهم خلاف على السلطات الزمنية، لكنهم عندما يواجهون عملاقًا قادرًا على دحر كل بنيان أكاذيبهم يتفقون معًا. وهذا ما نراه في الواقع الحياتي: معسكر الشرق- الذي كان- يعادي معسكر الغرب، ولكن ما إن يجيء شيء يتصل بالإسلام حتى يتفقوا معًا على الرغم من هزيمة المعسكر الشرقي؛ لأن الإسلام بمنهجه خطر على هؤلاء وهؤلاء وعلى سلطاتهم ولكنه في الحقيقة رحمة بهم إنه يخرجهم من الظلمات إلى النور وهم يتصرفون في ضوء ما قاله الحق: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.
وعندما ينفرد كل منهم بالآخر فإنه ينطبق عليهم قول الحق: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء} [المائدة: 14].
هكذا نفهم طبيعة العلاقات بين أعداء الإسلام.
ويقول الحق: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي أن من يتخذهم نصراء ومعينين فلابد أنّه يقع في شرك النفاق؛ لأنه سيكون مع المسلمين بلسانه ومع أعداء الإسلام بقلبه.
ويذيل الحق الآية بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} ونعرف أن الظلم هو نقل حق إلى غير صاحبه، وأعلى مراتب الظلم هو الشرك بالله، وهو الظلم العظيم؛ فالحق يقول: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ذلك أن الإنسان حين يظلم إنسانًا آخر ويأخذ منه شيئًا ليعطيه لآخر فهل هناك إنسان يقدر على أن يأخذ من الله شيئًا؟ لا، فالإنسان لا يستطيع أن يظلم الله، لكنه ينال عقوبة الشرك وهذا ظلم خائب للنفس والذي يشرك بالله لا يأخذ إلا الخسار، وذلك هو كل الخيبة.
لأن الظلم حينما يحقق للظالم فهو ظلم هين، ولكن الظلم العظيم هو أن يشرك إنسان بالله ولا يأخذ إلا العقاب الصارم. فإذا كان المشرك يتأبّى على منهج الله في الأشياء فهل يجرؤ على أن يتأبّى على قدريات الله غير الاختيارية فيه كالموت مثلًا؟.
والحق يأمر الإنسان بالإيمان. ومتعلقات الإيمان من شهادة بوحدانيته وإيمان برسله وكتبه واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا. والمشرك يتأبّى على الإيمان والتكاليف فهل يجرؤ على التأبي على المرض أو الموت؟. لا؛ لذلك فهو يظلم نفسه ظلمًا خائبًا. والحق سبحانه لا يهديه؛ لأن معنى الهداية هو أن يجد الإنسان من يدله على الطريق الموصل للغاية. فهداه أي دلّه على الطريق الموصل للغاية. ولا يتجنّى سبحانه على خلقه فلا يهديهم، بل الذين ظلموا أنفسهم ولم يؤمنوا هم الذين لا ينالون عناية الحق سبحانه وتعالى باختيارهم. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.
رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ لَمَّا تَنَصَّحَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَشَارَ إلَيْهِمْ بِأَنَّهُ الذَّبْحُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا كَانَ بَعْدَ أُحُدٍ خَافَ قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى قَالَ رَجُلٌ: أَوْ إلَى الْيَهُودِ، وَقَالَ آخَرُ: أَوْ إلَى النَّصَارَى؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ: «نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، لَمَّا تَبَرَّأَ عُبَادَةُ مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَتَمَسَّكَ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَقَالَ أَخَافُ الدَّوَائِرَ».
وَالْوَلِيُّ هُوَ النَّاصِرُ؛ لِأَنَّهُ يَلِي صَاحِبَهُ بِالنُّصْرَةِ، وَوَلِيُّ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ يَتَوَلَّى التَّصَرُّفَ عَلَيْهِ بِالْحِيَاطَةِ، وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ عَصَبَتُهَا لِأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ عَلَيْهَا عَقْدَ النِّكَاحِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلْمُسْلِمِ لَا فِي التَّصَرُّفِ وَلَا فِي النُّصْرَةِ؛ وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْعَدَاوَةِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ، فَإِذَا أُمِرْنَا بِمُعَادَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِكُفْرِهِمْ فَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ بِمَنْزِلَتِهِمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} عَلَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى النَّصْرَانِيِّ فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ يَسْتَحِقُّهَا لَوْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَهُودِيًّا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ هُوَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ.
وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى كَوْنِ بَعْضِهِمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْكُفْرِ كُلِّهِ مِلَّةً وَاحِدَةً وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُ وَطُرُقُهُ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ مُنَاكَحَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، الْيَهُودِيِّ لِلنَّصْرَانِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيِّ لِلْيَهُودِيَّةِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إنَّمَا هُوَ فِي أَحْكَامِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكِتَابِيِّ وَغَيْرِ الْكِتَابِيِّ فِي جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ وَأَكْلِ الذَّبِيحَةِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ حُكْمُ نَصَارَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَوْلُهُ: {مِنْكُمْ} يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَرَبَ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانُوا إذَا تَوَلَّوْا الْكُفَّارَ صَارُوا مُرْتَدِّينَ، وَالْمُرْتَدُّ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ لَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا وَلَا يَرِثُهُمْ وَلَا يَرِثُونَهُ وَلَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الْوِلَايَةِ؟ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدَّ لِإِخْبَارِ اللَّهِ أَنَّهُ مِمَّنْ تَوَلَّاهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْيَهُودِيَّ وَلَا النَّصْرَانِيَّ، فَكَذَلِكَ لَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ قَالَ أَبُو بَكْر: وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إلَى الْيَهُودِيَّةِ لَا يَكُونُ يَهُودِيًّا وَالْمُرْتَدَّ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ لَا يَكُونُ نَصْرَانِيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا إنْ كَانَتْ امْرَأَةً وَأَنَّهُ لَا يَرِثُ الْيَهُودِيُّ وَلَا يَرِثُهُ؟ فَكَمَا لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى إيجَابِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَحَدُ وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْخِطَابُ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ إذَا تَهَوَّدُوا أَوْ تَنَصَّرُوا كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَهُمْ فِي جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ وَأَكْلِ الذَّبِيحَةِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ بِالْجِزْيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مِثْلُهُمْ بِمُوَالَاتِهِ إيَّاهُمْ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْمِيرَاثِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ فِي الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} لَمْ يُحْتَمَلْ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِأَوَّلِ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُمْ الْعَرَبُ، جَازَ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} الْعَرَبَ، فَيُفِيدَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إذَا تَوَلَّوْا الْيَهُودَ أَوْ النَّصَارَى بِالدِّيَانَةِ وَالِانْتِسَابِ إلَى الْمِلَّةِ يَكُونُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِجَمِيعِ شَرَائِعِ دِينِهِمْ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ فِيمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا بَعْضَ الْمَذَاهِبِ الْمُوجِبَةِ لِإِكْفَارِ مُعْتَقِدِيهَا: إنَّ الْحُكْمَ بِإِكْفَارِهِ لَا يَمْنَعُ أَكْلَ ذَبِيحَتِهِ وَمُنَاكَحَةَ الْمَرْأَةِ مِنْهُمْ إذَا كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَفَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ لِمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ الْمَقَالَةِ الْفَاسِدَةِ؛ إذْ كَانُوا فِي الْجُمْلَةِ مُتَوَلِّينَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مُنْتَسِبِينَ إلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ، كَمَا أَنَّ مَنْ انْتَحَلَ النَّصْرَانِيَّةَ أَوْ الْيَهُودِيَّةَ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَسِّكًا بِجَمِيعِ شَرَائِعِهِمْ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ مِمَّنْ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ، وَابْنِ أُبَيٍّ؛ وَذَلِكَ «أَنَّ عُبَادَةَ تَبَرَّأَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِلْفِ قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ كَانَ لَهُ حِلْفُهُمْ مِثْلُ مَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَتَمَسَّكَ ابْنُ أُبَيٍّ بِهِمْ، وَقَالَ: إنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ».
الثَّانِي: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُوَازُونَ يَهُودَ قُرَيْظَةَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رِيفٍ، وَكَانُوا يَمِيرُونَهُمْ وَيُقْرِضُونَهُمْ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَقْطَعُ مَوَدَّةَ قَوْمٍ إذَا أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَاحْتَجْنَا إلَيْهِمْ وَسَعَوْا عَلَيْنَا الْمَنَازِلَ وَعَرَضُوا عَلَيْنَا الثِّمَارَ إلَى أَجَلٍ، فَنَزَلَتْ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ؛ فَأَمَّا نُزُولُهَا فِي أَبِي لُبَابَةَ فَمُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ إلَى حَلْقِهِ بِأَنَّهُمْ إنْ نَزَلُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الذَّبْحُ فَخَانَهُ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى ذَلِكَ فِيهِمَا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ لَا تَخُصُّ بِهِ أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اتَّخَذَ بِالْيَمَنِ كَاتِبًا ذِمِّيًّا، فَكَتَبَ إلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيًّا فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ، وَلَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَرَأَ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُوَضَّحًا، وَعَلَى هَذَا جَاءَ بَيَانُ تَمَامِ الْآيَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى عَامَّةً فِي نَفْيِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ الْكُفَّارِ أَجْمَعِينَ. اهـ.